كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والقائلون بالتناسخ هم فرقة من الفلاسفة يعتقدون أن الروح إذا ماتت ولم تستكمل فضائلها تنسخ أي تنقل إلى نطفة أخرى لاستكمال الفضائل المزعومة، ويقرب من هذه عقيدة الدروز الذين يقولون بالتقمص أي إذا مات الميت تتقمص روحه أي تنقل إلى إنسان أو حيوان ولد ساعة موته، وهذه عقائد عقلية ساذجة لا أصل لها ولعلها سرت عليهم من الخوارج الخارجين عن شرائع الإسلام {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}، والدين عند اللّه هو الإسلام دين أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
{وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} اللّه ولا فائتينه عن أن يصيبكم بذنوبكم بل هو قادر عليكم لا تستطيعون الهرب من قضائه والتفلّت من قبضته {وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إذا أراد معاجلتتكم بالعقوبة {مِنْ وَلِيٍّ} يدافع عنكم {وَلا نَصِيرٍ} 31 ينصركم ويحميكم منه {وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ} السفن الجاريات على الماء {فِي الْبَحْرِ} والأنهار التي هي في عظمها {كَالْأَعْلامِ} 32 الجبال العالية وأصل العلم بفتح العين الأثر الذي يعلم به الشيء كعلم الطريق والجيش، ولذلك سمي الجبل علما سواء كان عليه نار كما قالت الخنساء:
وإن صخرا لنأتم الهداة به ** كأنه علم في رأسه نار

أو لم يكن قيل إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لما سمع قولها هذا قال قاتلها اللّه ما رضيت بتشبيهه بالجبل حتى جعلت على رأسه نارا.
وهذه الآية من الإخبار بالغيب أيضا، لأنه عند نزولها لم تكن هذه المراكب الضخمة، والبواخر العظيمة التي هي حقيقة في كبرها كالجبال، فسبحان من أودع كتابه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة وما بعده، لأن فيه ما يكون من حالتي أهل الجنة والنار بعد يوم القيامة أيضا، قال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ} تلك السفن {رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ} أي البحر أو النهر، لأن السفن إذ ذاك والآن أيضا تجريها الرياح بالشراع فإذا سكنت وقفت بخلاف سفينة سيدنا نوح الجسيمة التي كان سيرها ووقوفها بكلمة اسم اللّه راجع الآية 46 من سورة هود المارة، وهذا معجزة له عليه السلام، أما المراكب العظيمة ذوات المحركات وإن كانت تسير بقوة البخار فإن الرياح تؤثر فيها تأثيرا قد يلحىء ربانها إلى الوقوف إذا رأى مريا خوفا من الغرق لأنه لا يقدر أن يسيرها بانتظام لما تلعب فيها الرياح يمينا وشمالا حتى تكون كالكرة بيد الشاب، فيمشيها بتؤده لأنها مهما عظمت فهي عند اشتداد الريح وهيجان البحر كتبنة صغيرة، وقد رأيناها عيانا هكذا بسفرنا إلى الحجاز، وممن عظيم ما رأينا لم تسمح أنفسنا بالعودة بحرا ونسأل اللّه تعالى أن يوفقنا لزيارة بيته الحرام وضريح نبيه عليه الصلاة والسلام {إِنَّ فِي ذلِكَ} المذكور من آيات اللّه {لَآياتٍ} عظيمات دالات على قدرة القادر وعبرة مؤثرة {لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} 33 لنعم اللّه من كاملي الإيمان، لأن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر، وهذه صفه المؤمن يصبر في الشدة وبشكر في الرخاء فيظفر بمطلوبه كما قيل:
وقلّ من جد في أمر يطالبه ** واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر

قال تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ} يغرقهن ويهلكهن {بِما كَسَبُوا} ركابها من الذنوب الموجبة لذلك، لأن السفن لا جرم لها، ولهذا عاد الضمير على راكبيها وعود الضمير على ما ليس بمذكور جائز إذا تقدم ما يدل عليه أو كان معلوما كما هنا، راجع الآية4 من سورة القدر في ج 1، {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} 34 بأن ينجيهم بفضله ورحمته ومنّه وعطفه ولطفه {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} 35 محيد يحيدون عنه ويلجأون إليه إذا وقفوا في مثل هذه الشدائد وعرفوا بطل جدالهم.
واعلم أن (وَيَعْلَمَ) في صدر هذه الآية جار على الاستئناف على قراءة نافع وابن عامر، وقرأ الباقون بالنصب عطفا على تعليل محذوف، أي لينتقم منهم وليعلم الذين يجادلون إلخ، {فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شيء} أيها الناس من الحطام {فَمَتاعُ الْحَياةِ} في هذه {الدُّنْيا} تتمتعون فيها به لانقضاء آجالكم، ثم تتركونه، وهذا مما يستوي فيه المؤمن والكافر {وَما عِنْدَ اللَّهِ} من الثواب الذي خبأه لكم بمقابل أعمالكم الصالحة {خَيْرٌ} من زخارف الدنيا وجاهها {وَأَبْقى} منها وأدوم وأحسن {لِلَّذِينَ آمَنُوا} بنعيم الآخرة {وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 36 في أمورهم كلها، وما قيل إن هذه الآيات نزلت في أبي بكر رضي اللّه عنه حين تصدق بكل ماله لا يتجه، لأن هذه الآية مكية وهو رضي اللّه عنه تصدق بالمدينة لا بمكة، لهذا فإنها عامة في كل من اتصف بما جاء فيها، ويدخل فيها الصديق دخولا أوليا، لأنها غير مقيدة بزمان فتشمل كل من هذا شأنه إلى يوم القيامة.
ثم قسم اللّه تعالى عباده من جهة التحمل إلى ستة أقسام فقال أولا {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ} كالشرك باللّه ونسبة الولد والزوجة إليه تعالى عن ذلك {وَ} يجتنبون {الْفَواحِشَ} كل ذنب عظيم قبحه يسمى فاحشا كالزنى واللواطة والقذف والسرقة من محل محرم والقتل عمدا، راجع تفصيلها في الآية 32 من سورة الأعراف في ج1 {وَإِذا ما غَضِبُوا} على من أساء إليهم {هُمْ يَغْفِرُونَ} 37 إساءته لا يعاقبونه عليها ويكظمون غيظهم حلما وعفوا، فهؤلاء داخلون في قوله تعالى: {وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ} الآية 134 من آل عمران في ج 3، ثانيا {وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ} لما دعاهم إلى الإيمان به {وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ} إذا أرادوا عمل شيء يهمّ المجتمع تذاكروا فيه فيما بينهم لا يستبدون برأيهم، فقد ورد: ما تشاور قوم إلا هدوا لما فيه رشدهم، {وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} 38 في سبيل الخير ووجوه البر.
واعلم أن المشورة هي استخراج الرأي بمراجعة الناس بعضهم إلى بعض، فتحصل من تصادم الآراء واحتكاك الأقوال النتيجة المرضية التي يجمع عليها للتشاورون أو أكثرهم، كما تحصل النار من قدح الحجر بعضه ببعض أو بالزناد.
وتشير الآية إلى مدح المشاورة والمتشاورين، وقد جاء في الخبر: ما خاب من استشار ولا ندم من استخار.
أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي اللّه عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أراد أمرا فشاور فيه وقضى هدي لأرشد الأمور».
وأخرج عبد بن حميد والبخاري في الأدب وابن المنذر عن الحسن قال: ما تشاور قوم قط إلا هدوا وأرشد أمرهم، ثم تلا هذه الآية.
وقد كانت الشورى بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما يتعلق بمصالح الحروب، وكذا بين الأصحاب رضي اللّه عنهم بعده، وكانت بينهم في الأحكام كقتال أهل الردة وميراث الجد وعدد حد الخمر وغير ذلك مما لم يرد فيه نص شرعي، لأن الشورى تكون إذا لم يكن نص، ولهذا أتت القاعدة الشرعية (لا اجتهاد في مورد النص) هذا في الأحكام والحدود، أما في الأمور الإدارية والسياسية والتي مصدرها العرف والعادة فيؤخذ بما يقر عليه رأي الجماعة، لأن الأمة لا تجمع على ضلالة.
وفيما يتعلق بالحروب لا بأس من اتخاذ ما لم يتخذه العدو، لأن الحرب خدعة، ولذا جاز فيه الكذب على العدو.
أخرج الخطيب عن علي كرم اللّه وجهه قال: قلت يا رسول اللّه الأمر ينزلبنا بعدك لم ينزل فيه قرأن ولم يسمع منك فيه شيء؟ قال «اجمعوا له العابد من أمتي واجعلوه بينكم شورى، ولا تقصوا برأي واحد».
فعلى هذا ينبغي أن يكون المستشار عاقلا عابدا وأن يؤخذ بقول الأكثر كما يستفاد من قوله ولا تقضوا برأي واحد.
وأخرج الخطيب أيضا عن أبي هريرة مرفوعا: «استرشدوا العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا».
والشورى على هذا الوجه من جملة أسباب صلاح الأرض، ففي الحديث: «إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم أسخياءكم وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم أشراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأمركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها».
وقيل: إذا استشارك عدوك فاخلص له النصيحة لأنه بها خرج من عداوتك ودخل في مودتك.
وهذه الآية عامة محكمة نافذة إلى الأبد، حكي عن ابن الفرس أن هذه الآية نزلت بالمدينة وقد انفرد وحده بهذا إذ لم يقل به غيره، وان الغرس ما احتج به على ذلك من أن وقوع المشورة في القتال وغيره لم يكن إلا في المدينة لا يؤيد كون هذه الآية مدنية، لأن كثيرا من الآيات المكيات تنطبق على حوادث وقعت في المدينة، وكثيرا من الآيات المدنيات تنطبق على وقائع حدثت في مكة، فلا يعني أن هذا مكي وذلك مدني، لأن إثبات ذلك متوقف على السماع الصحيح والقول غير المطعون فيه من الرجال الثقات، وقدمنا في الآية 32 من سورة النمل في ج 1 ما يتعلق في هذا البحث وله صلة في الآية 159 من آل عمران الآتية في ج 3 فراجعهما، وثالثا {وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ} بأن تعدي عليهم ظلما وعدوانا {هُمْ يَنْتَصِرُونَ} 39 لأنفسهم ممن بغى عليهم من غير تعد عليه مراقبا قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} الآية 195 من سورة البقرة ج 3، وذلك أن المؤمن خلق عزيزا يأبى الذل وسكوته في مثل هذه الحالة هوان فيه ومهانة عليه، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} الآية 9 من سورة المنافقين ج 3، وعلى هذا يؤول قول الإمام الشافعي: زن من وزنك، بما اتزنك. وما وزنك به فزنه. من جاء إليك، فرح إليه. ومن جفاك، فصدّ عنه.
ومع هذا إذا عفا وهو قادر على الانتصار لنفسه فهو أحسن وقد أخذ بالعزيمة وهي أحسن من الرخصة إذا لم يكن فيها إغراء للسفيه إذ يكون حط من الكرامة وقد يأباها خلق المؤمن، قال:
ولا يقيم على ضيم يراد به ** إلا الأذلان عير الحي والوتد

هذا على الخسف مربوط برمّته ** وذا يشجّ فلا يرثي له أحد

وقال الآخر:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

وقال الآخر:
فوضع الندى في موضع السيف بالعدى ** مضر كوضع السيف في موضع الندى

أما إذا كان يملك نفسه كالقائل:
إذا فاه السفيه يسب عرضي ** كرهت أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة وأزيد حلما ** كعود زاده الإحراق طيبا

وقول الآخر:
فأعرض عن شتم الكريم ادخاره ** وأعرض عن شتم اللئيم تكرما

فلا بأس، فقد أخذ بالعفو والصفح المحمودين، وكان من ذوي النفوس الطاهرة النقية يأبى أن يطرأ عليها معنى الذل وخاصة إذا كان يقصد تحمل الأذى قربة إلى اللّه تعالى فلا يحب الانتصاف لنفسه، فهو من الكاملين ولا يظن به ما يظن بغيره من الهوان والضعف.
وإذا كان الإعراض عن المقابلة تمدها كقوله في السكوت عن إجابة اللئيم في سبابه:
ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني ** فأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة وأزيد حلما ** كعود زاده الإحراق طيبا

فلا بأس أيضا لأنه مهما كان يعد من مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب.
ورابعا المقابلة المعنية بقوله تعالى: {وَجَزاء سَيِّئَةٍ} عملها المساء إليه بالسيء هي أيضا {سَيِّئَةٌ مِثْلُها} لأنه إذا جازى الرجل من أساء إليه بمثل إساءته له فقد أساء أيضا، إلا أنه لا يجازى على ذلك، لأنها بالمقابلة بلا زيادة، لهذا سمى جزاء السيئة سيئة أيضا، لمشابهتها لها صورة وإلا فليست بسيئة حقيقة، وبما أن اللّه تعالى لا يرغب الانتصار للنفس ويحب العفو فقد سمى الانتصار سيئة، ولهذا أعقبها بقوله: {فَمَنْ عَفا} عمن أساء إليه {وَأَصْلَحَ} بغض النظر عن العقوبة ولم يجابه خصمه بمثل سيئته {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ومن كان أجره على اللّه سعد وفاز، لأن اللّه تعالى يكافئ عن القليل كثيرا، ومن انتقم حرم من هذا الأجر العظيم، لأن الانتقام قد يقع فيه تعدي لأنه من الصعب أن يقابل التعدّي بمثله تماما، ولهذا حذر اللّه تعالى عن التعدي المستلزم للظلم، فختم هذه الآية بقوله عز قوله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} 40 الذين يتجاوزون حد الانتصار والبادئين غيرهم بالظلم لا بالمقابلة، وعلى كل البادي أظلم.
خامسا قال تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} لنفسه بأن قابل الاعتداء بمثله لأن نفسه لم تسمح بالعفو وليس من أولي التحمل ولا التمدح {فَأُولئِكَ} الآخذين تارهم ذيّا عن كرامتهم وحفظا لعزّهم {ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} 41 يؤاخذون به لأنهم أخذوا بالعزيمة وفعلوا ما خول لهم فلا عقاب عليهم ولا عتاب ولا عيب عليهم {إِنَّمَا السَّبِيلُ} الطريق الموجب للعقوبة يكون {عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} مبدئيا بلا سبب {وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ} يفسدون فيها ويتكبرون على أهلها ويعملون المعاصي ويطفون على الناس {بِغَيْرِ الْحَقِّ} تجبرا وأنفة وأنانية بقصد التعاظم عليهم {أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} 42 في الآخرة غير الذي يبتليهم اللّه به في الدنيا مما لم يعف عنه، إذ قد يسلط عليهم من هو أظلم منهم فينتقم لذلك المظلوم. وقد جاء في الخبر: الظالم سيفى انتقم به وأنتقم منه.
قال تعالى في وصف الصنف السادس وهو أحسنهم {وَلَمَنْ صَبَرَ} على ما نابه من الغير {وَغَفَرَ} له تعديه عليه فضلا عن أنه لم يقابله به ولم يؤنبه عليه ولم يعاتبه به أيضا مع قدرته على الانتقام {إِنَّ ذلِكَ} الصبر على الأذى مع المغفرة عمل مبرور.
ولهذا أشار إليه بالصبر إعلاما بحسنه وتعاظمه على النفس إذ قل أن تجد من يتخلق بهذه الأخلاق الحميدة غير الأولياء وقليل ما هم، ولهذا أشار تعالى بجليل ثوابه وكبير أجره وجميل عمله عنده بقوله عزّ قوله: {لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} 43 التي أمر اللّه تعالى بها خلّص عباده لأن الصبر على المكاره من خصال الأنبياء والغفران مع القدرة من أفعال العظماء وهاتان الخصلتان من شأن أولي العزم.
هذا، وقد ذكر اللّه تعالى في هذه الآيات ألست من قوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ} إلى هنا اثنتي عشرة خصلة متداخلة، ولذا قلنا ستة أقسام، لأن في كل قسم خصلتين، وكلها من كرائم أخلاق المؤمن وأحاسن صفاته، إرشادا لعباده للأخذ بها، وحثا لهم على التحلي بمكارم الآداب.
قال:
وإنما الأمم الأخلاق ما صلحت ** فإن هم فسدت أخلاقهم فسدوا

وقائله حميد بن ثور الهلالي، وإن أمير الشعراء السيد شوقي قال:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

فانظر بين المتقدم والمتأخر تجد البون شاسعا.
هذا، والتمسك بآداب الأنبياء تعليما للأمراء والحكام أن يتقبدوا بهم، فيفعلوا ما أرشدوا إليه من تلك الخصال العالية، فيكونوا أكبر شأنا من غيرهم، وعلى الناس أن تتأسى بهم، لأن العبد إذا عفا عن أخيه فاللّه تعالى أولى بأن يعفو عنه، إذ لا يخلو أحد من قصور تجاه مولاه، ومن هنا أخذت قاعدة إسقاط الحق العام تبعا للحق الشخصي.